Salah satu tanda kiamat yang dikhabarkan oleh Nabi SAW ialah api besar yang akan keluar di Madinah sehingga cahayanya sampai ke Busra di Syria. Abu Hurairah RA meriwayatkan, Nabi SAW pernah bersabda:
لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببصرى
maksudnya: "Tidak akan berlaku hari kiamat sehinggalah akan keluar api dari bumi Hijaz (Madinah), cahayanya akan menerangi sehingga ke tengkuk-tengkuk unta di Busra (di Syiria)." (HR al-Bukhari dan Muslim)
Peristiwa ini telahpun berlaku pada pertengahan kurun ke-7 tahun 654H. Kata al-Imam al-Nawawi RH:
خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة, وكانت ناراً عظيمة جداً من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، تواتر العلم بها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة
maksudnya: "Telah keluar di zaman kami satu api yang terlalu besar di Madinah pada tahun 654H. Api tersebut begitu besar keluar dari sebelah timur kota Madinah belakang al-Harrah. telah tawatur pengetahuan tentangnya di sisi seluruh orang Syam dan seluruh kota. Mengceritakan kepadaku orang yang menyaksikan perkara itu di Madinah." (Syarah Sahih Muslim oleh al-Nawawi 18/28)
al-Imam Ibn Kathir di dalam al-Bidayah wa al-Nihayah (6/285) menukilkan terdapat ramai dari kalangan arab Badwi yang dapat melihat tengkuk-tengkuk unta peliharaan mereka di Busra dengan cahaya api besar yang keluar di Hijaz.
Di bawah ini saya terjemahkan penceritaan Ibn Kathir di dalam al-Bidayah wa al-Nihayah (Tahkik Dr. 'Abdullah bin 'Abd al-Muhsin al-Turki, 17/187-196 cetakan pertama 1419H/1998M, Markaz al-Buhuth wa al-Dirasat al-'Arabiyyah wa al-Islamiyyah, Dar Hijr) tentang peristiwa ini:
ومُلَخَّصُ ما أوْرَدَهُ أبُو شامَةَ ﵀ تَعالى أنَّهُ قالَ: وجاءَ إلى دِمَشْقَ كُتُبٌ مِنَ المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلى ساكِنِها أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، بِخُرُوجِ نارٍ عِنْدَهُمْ فِي خامِسِ جُمادى الآخِرَةِ مِن هَذِهِ السَّنَةِ، وكُتِبَتِ الكُتُبُ فِي خامِسِ رَجَبٍ، والنّارُ بِحالِها، ووَصَلَتِ الكُتُبُ إلَيْنا فِي عاشِرِ شَعْبانَ. ثُمَّ قالَ
لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَخْرُجَ نارٌ مِن أرْضِ الحِجازِ تُضِيءُ أعْناقَ الإبِلِ بِبُصْرى» فَأخْبَرَنِي بَعْضُ مَن أثِقُ بِهِ مِمَّنْ شاهَدَها أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّهُ كَتَبَ بِتَيْماءَ عَلى ضَوْئِها الكُتُبَ. قالَ: وكُنّا فِي بُيُوتِنا تِلْكَ اللَّيالِي، وكَأنَّ فِي دارِ كُلِّ واحِدٍ مِنّا سِراجًا، ولَمْ يَكُنْ لَها حَرٌّ ولَفْحٌ عَلى عِظَمِها، إنَّما كانَتْ آيَةً مِن آياتِ اللَّهِ ﷿. قالَ أبُو شامَةَ: وهَذِهِ صُورَةُ ما وقَفَتُ عَلَيْهِ مِنَ الكُتُبِ الوارِدَةِ فِيها
Api itu membakar bumi. Aku menulis surat ini pada 5 Rejab 654H, api semakin marak tiada perubahan. Ia kembali ke al-Hirar di Quraizhah jalan rombongan haji Iraq ke al-Harrah. Seluruh jalan dipenuhi api yang marak. Kami dapat melihatnya pada malam hari dari Madinah, ia seolah-olah obor-obor jemaah haji, api utamanya terlalu besar mengalir muntahnya dari Quraizah. Apa semakin marak, orang ramai tidak dapat menjangkakan apa yang akan berlaku berikutnya. Allahlah yang diserahkan harapan agar menjadikan kesudahannya yang baik. Daku tidak mampu lagi menggabarkannya keadaan api yang amat besar ini.
قالَ أبُو شامَةَ: وفِي كِتابٍ آخَرَ: ظَهَرَ فِي أوَّلِ جُمُعَةِ مِن جُمادى الآخِرَةِ سَنَةَ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وسِتِّمِائَةٍ، ووَقَعَ فِي شَرْقِيِّ المَدِينَةِ المُشَرَّفَةِ، نارٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَها وبَيْنَ المَدِينَةِ نِصْفُ يَوْمٍ، انْفَجَرَتْ مِنَ الأرْضِ، وسالَ مِنها وادٍ مِن نارٍ حَتّى حاذى جَبَلَ أُحُدٍ، ثُمَّ وقَفَتْ وعادَتْ إلى السّاعَةِ، ولا نَدْرِي ماذا نَفْعَلُ؟ ووَقْتُ ما ظَهَرَتْ دَخَلَ أهْلُ المَدِينَةِ إلى نَبِيِّهِمْ، ﵊، مُسْتَغْفِرِينَ تائِبِينَ إلى رَبِّهِمْ تَعالى، وهَذِهِ دَلائِلُ القِيامَةِ.
قالَ: وفِي كِتابٍ آخَرَ: لَمّا كانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلُّ جُمادى الآخِرَةِ، سَنَةَ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وسِتِّمِائَةٍ وقَعَ بِالمَدِينَةِ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ الرَّعْدِ البَعِيدِ تارَةً وتارَةً، أقامَ عَلى هَذِهِ الحالِ يَوْمَيْنِ، فَلَمّا كانَتْ لَيْلَةُ الأرْبِعاءِ ثالِثَ الشَّهْرِ المَذْكُورِ تَعَقَّبَ
الصَّوْتَ الَّذِي كُنّا نَسْمَعُهُ زَلازِلُ، فَتُقِيمُ عَلى هَذِهِ الحالِ ثَلاثَةَ أيّامٍ يَقَعُ فِي اليَوْمِ واللَّيْلَةِ أرْبَعَ عَشْرَةَ زَلْزَلَةً، فَلَمّا كانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ خامِسَ الشَّهْرِ المَذْكُورِ انْبَجَسَتِ الحَرَّةُ بِنارٍ عَظِيمَةٍ يَكُونُ قَدْرُها مِثْلَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وهِيَ بِرَأْيِ العَيْنِ مِنَ المَدِينَةِ نُشاهِدُها وهِيَ تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى، وهِيَ بِمَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ: أُحَيْلِينَ. وقَدْ سالَ مِن هَذِهِ النّارِ وادٍ يَكُونُ مِقْدارُهُ أرْبَعَةَ فَراسِخَ، وعَرْضُهُ أرْبَعَةَ أمْيالٍ، وعُمْقُهُ قامَةً ونِصْفًا، وهِيَ تَجْرِي عَلى وجْهِ الأرْضِ، ويَخْرُجُ مِنها أمْهادٌ وجِبالٌ صِغارٌ، وتَسِيرُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وهُوَ صَخْرٌ يَذُوبُ حَتّى يَبْقى مِثْلَ الآنُكِ، فَإذا جَمَدَ صارَ أسْوَدَ، وقَبْلَ الجُمُودِ لَوْنُهُ أحْمَرُ، وقَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ النّارِ إقْلاعٌ عَنِ المَعاصِي، والتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعالى بِالطّاعاتِ، وخَرَجَ أمِيرُ المَدِينَةِ عَنْ مَظالِمَ كَثِيرَةٍ إلى أهْلِها.
قالَ الشَّيْخُ شِهابُ الدِّينِ أبُو شامَةَ: ومِن كِتابِ شَمْسِ الدِّينِ سِنانِ بْنِ عَبْدِ الوَهّابِ بْنِ نُمَيْلَةَ الحُسَيْنِيِّ قاضِي المَدِينَةِ إلى بَعْضِ أصْحابِهِ؛ لَمّا كانَتْ لَيْلَةُ الأرْبِعاءِ ثالِثَ جُمادى الآخِرَةِ حَدَثَ بِالمَدِينَةِ فِي الثُّلْثِ الأخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ أشْفَقْنا مِنها، وباتَتْ باقِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تُزَلْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ قَدْرَ
عَشْرِ نَوْباتٍ، واللَّهِ لَقَدْ زَلْزَلَتْ مَرَّةً ونَحْنُ حَوْلَ حُجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اضْطَرَبَ لَها المِنبَرُ إلى أنْ أوْجَسْنا مِنهُ صَوْتًا لِلْحَدِيدِ الَّذِي فِيهِ، واضْطَرَبَتْ قَنادِيلُ الحَرَمِ الشَّرِيفِ، وتَمَّتِ الزَّلْزَلَةُ إلى يَوْمِ الجُمُعَةِ ضُحًى، ولَها دَوِيٌّ مِثْلُ دَوِيِّ الرَّعْدِ القاصِفِ، ثُمَّ طَلَعَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فِي طَرِيقِ الحَرَّةِ فِي رَأْسِ جَبَلَيْنِ نارٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ المَدِينَةِ العَظِيمَةِ، وما بانَتْ لَنا إلّا لَيْلَةَ السَّبْتِ، وأشْفَقْنا مِنها، وخِفْنا خَوْفًا عَظِيمًا، وطَلَعْتُ إلى الأمِيرِ وكَلَّمْتُهُ، وقُلْتُ لَهُ: قَدْ أحاطَ بِنا العَذابُ، ارْجِعْ إلى اللَّهِ تَعالى، فَأعْتَقَ كُلَّ مَمالِيكِهِ، ورَدَّ عَلى جَماعَةٍ أمْوالَهُمْ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ، قُلْتُ: اهْبِطِ السّاعَةَ مَعَنا إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَهَبَطَ وبِتْنا لَيْلَةَ السَّبْتِ، والنّاسُ جَمِيعُهُمْ والنِّسْوانُ وأوْلادُهُمْ، وما بَقِيَ أحَدٌ لا فِي النَّخِيلِ ولا فِي المَدِينَةِ إلّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وأشْفَقْنا مِنها، وظَهَرَ ضَوْءُها إلى أنْ أُبْصِرَتْ مِن مَكَّةَ ومِنَ الفَلاةِ جَمِيعِها.
ثُمَّ سالَ مِنها نَهَرٌ مِن نارٍ، وأخَذَ فِي وادِي أُجَيْلِينَ وسَدَّ الطَّرِيقَ، ثُمَّ طَلَعَ إلى بَحْرَةِ الحاجِّ، وهُوَ بَحْرُ نارٍ يَجْرِي، وفَوْقَهُ جَمْرٌ يَسِيرُ إلى أنْ قَطَعَتِ الوادِيَ؛ وادِي الشَّظا، وما عادَ يَجْرِي فِي الوادِي سَيْلٌ قَطُّ؛ لِأنَّها حَفَرَتْهُ نَحْوَ قامَتَيْنِ
وثُلْثٍ عُلُوُّها، وبِاللَّهِ يا أخِي إنَّ عِيشَتَنا اليَوْمَ مُكَدَّرَةٌ، والمَدِينَةُ قَدْ تابَ جَمِيعُ أهْلِها، ولا بَقِيَ يُسْمَعُ فِيها رَبابٌ، ولا دُفٌّ ولا شُرْبٌ، وتَمَّتِ النّارُ تَسِيرُ إلى أنْ سَدَّتْ بَعْضَ طَرِيقِ الحاجِّ وبَعْضَ بَحْرَةِ الحاجِّ، وجاءَ فِي الوادِي إلَيْنا مِنها قَتِيرٌ، وخِفْنا أنَّهُ يَجِيئُنا، فاجْتَمَعَ النّاسُ ودَخَلُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ، وباتُوا عِنْدَهُ جَمِيعُهُمْ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ، وأمّا قَتِيرُها الَّذِي مِمّا يَلِينا فَقَدْ طُفِئَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ ﷾، وأنَّها إلى السّاعَةِ وما نَقَصَتْ إلّا تَرى مِثْلَ الجِمالِ حِجارَةً مِن نارٍ، ولَها دَوِيٌّ ما يَدَعُنا نَرْقُدُ ولا نَأْكُلُ ولا نَشْرَبُ، وما أقْدِرُ أصِفُ لَكَ عِظَمَها، ولا ما فِيها مِنَ الأهْوالِ، وأبْصَرَها أهْلُ يَنْبُعَ ونَدَبُوا قاضِيَهُمْ ابْنَ أسْعَدَ، وجاءَ وعَدا إلَيْها، وما أصْبَحَ يَقْدِرُ يَصِفُها مِن عِظَمِها، وكَتَبَ الكُتّابُ يَوْمَ خامِسِ رَجَبٍ، وهِيَ عَلى حالِها، والنّاسُ مِنها خائِفُونَ، والشَّمْسُ والقَمَرُ مِن يَوْمِ ما طَلَعَتْ ما يَطْلُعانِ إلّا كاسِفَيْنِ، فَنَسْألُ اللَّهَ العافِيَةَ.
قالَ أبُو شامَةَ: وبانَ عِنْدَنا بِدِمَشْقَ أثَرُ الكُسُوفِ مِن ضَعْفِ نُورِها عَلى الحِيطانِ، وكُنّا حَيارى مِن ذَلِكَ أيْشِ هُوَ؟ إلى أنْ جاءَنا هَذا الخَبَرُ عَنْ هَذِهِ النّارِ.
قُلْتُ: وكانَ أبُو شامَةَ قَدْ أرَّخَ قَبْلَ مَجِيءِ الكُتُبِ بِأمْرِ هَذِهِ النّارِ، فَقالَ: وفِيها فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ السّادِسَ عَشَرَ مِن جُمادى الآخِرَةِ خَسَفَ القَمَرُ أوَّلَ اللَّيْلِ،
وكانَ شَدِيدَ الحُمْرَةِ، ثُمَّ انْجَلى، وكَسَفَتِ الشَّمْسُ، وفِي غَدِهِ احْمَرَّتْ وقْتَ طُلُوعِها وغُرُوبِها وبَقِيَتْ كَذَلِكَ أيّامًا مُتَغَيِّرَةَ اللَّوْنِ، ضَعِيفَةَ النُّورِ، واللَّهُ تَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ قالَ: واتَّضَحَ بِذَلِكَ ما صَوَّرَهُ الشّافِعِيُّ مِنَ اجْتِماعِ الكُسُوفِ والعِيدِ واسْتَبْعَدَهُ أهْلُ النِّجامَةِ.
ثُمَّ قالَ أبُو شامَةَ: ومِن كِتابٍ آخَرَ مِن بَعْضِ بَنِي الفاشانِيِّ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ فِيهِ: وصَلَ إلَيْنا فِي جُمادى الآخِرَةِ نَجابَةٌ مِنَ العِراقِ، وأخْبَرُوا عَنْ بَغْدادَ أنَّهُ أصابَها غَرَقٌ عَظِيمٌ حَتّى دَخَلَ الماءُ مِن أسْوارِ بَغْدادَ إلى البَلَدِ، وغَرِقَ كَثِيرٌ مِنَ البَلَدِ، ودَخَلَ الماءُ دارَ الخِلافَةِ وسَطَ البَلَدِ، وانْهَدَمَتْ دارُ الوَزِيرِ وثَلاثُمِائَةٍ وثَمانُونَ دارًا، وانْهَدَمَ مَخْزَنُ الخَلِيفَةِ، وهَلَكَ مِن خِزانَةِ السِّلاحِ شَيْءٌ كَثِيرٌ بَلْ تَلِفَ كُلُّهُ، وأشْرَفَ النّاسُ عَلى الهَلاكِ، وعادَتِ السُّفُنُ تَدْخُلُ إلى وسَطِ البَلَدِ، وتَخْتَرِقُ أزِقَّةَ بَغْدادَ.
قالَ: وأمّا نَحْنُ فَإنَّهُ جَرى عِنْدَنا أمْرٌ عَظِيمٌ؛ لَمّا كانَ بِتارِيخِ لَيْلَةِ الأرْبِعاءِ الثّالِثَ مِن جُمادى الآخِرَةَ ومِن قَبْلِها بِيَوْمَيْنِ، عادَ النّاسُ يَسْمَعُونَ صَوْتًا مِثْلَ صَوْتِ الرَّعْدِ ساعَةً بَعْدَ ساعَةٍ - وما فِي السَّماءِ غَيْمٌ حَتّى نَقُولَ إنَّهُ مِنهُ - يَوْمَيْنِ إلى لَيْلَةِ الأرْبِعاءِ، ثُمَّ ظَهَرَ الصَّوْتُ حَتّى سَمِعَهُ النّاسُ وتَزَلْزَلَتِ الأرْضُ ورَجَفَتْ بِنا رَجْفَةً لَها صَوْتٌ كَدَوِيِّ الرَّعْدِ، فانْزَعَجَ لَها النّاسُ كُلُّهُمْ، وانْتَبَهُوا مِن
مَراقِدِهِمْ، وضَجَّ النّاسُ بِالِاسْتِغْفارِ إلى اللَّهِ تَعالى، وفَزِعُوا إلى المَسْجِدِ، وصَلَّوْا فِيهِ، وتَمَّتْ تَرْجُفُ بِالنّاسِ ساعَةً بَعْدَ ساعَةٍ إلى الصُّبْحِ؛ وذَلِكَ اليَوْمَ كُلَّهُ يَوْمَ الأرْبِعاءِ ولَيْلَةَ الخَمِيسِ كُلَّها ويَوْمَ الخَمِيسِ ولَيْلَةَ الجُمُعَةِ. وصُبْحَ يَوْمِ الجُمُعَةِ ارْتَجَّتِ الأرْضُ رَجَّةً قَوِيَّةً إلى أنِ اضْطَرَبَ مَنارُ المَسْجِدِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وسُمِعَ لِسَقْفِ المَسْجِدِ صَرِيرٌ عَظِيمٌ، وأشْفَقَ النّاسُ مِن ذُنُوبِهِمْ، وسَكَنَتِ الزَّلْزَلَةُ بَعْدَ صُبْحِ يَوْمِ الجُمُعَةِ إلى قَبْلِ الظُّهْرِ، ثُمَّ ظَهَرَتْ عِنْدَنا بِالحَرَّةِ وراءَ قُرَيْظَةَ عَلى طَرِيقِ السُّوارِقِيَّةِ بِالمَقاعِدِ مَسِيرَةً مِنَ الصُّبْحِ إلى الظَّهْرِ نارٌ عَظِيمَةٌ تَنْفَجِرُ مِنَ الأرْضِ، فارْتاعَ لَها النّاسُ رَوْعَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ ظَهَرَ لَها دُخانٌ عَظِيمٌ فِي السَّماءِ يَنْعَقِدُ حَتّى يَبْقى كالسَّحابِ الأبْيَضِ، إلى قَبْلِ مَغِيبِ الشَّمْسِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ، ثُمَّ ظَهَرَتِ النّارُ، لَها ألْسُنٌ تَصْعَدُ فِي الهَواءِ إلى السَّماءِ حَمْراءَ كَأنَّها العَلَقَةُ، وعَظُمَتْ وفَزِعَ النّاسُ إلى المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وإلى الحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، واسْتَجارَ النّاسُ بِها، وأحاطُوا بِالحُجْرَةِ وكَشَفُوا رُءُوسَهُمْ، وأقَرُّوا بِذُنُوبِهِمْ، وابْتَهَلُوا إلى اللَّهِ تَعالى، واسْتَجارُوا بِنَبِيِّهِ ﵊ وأتى النّاسُ إلى المَسْجِدِ مِن كُلِّ فَجٍّ ومِنَ النَّخْلِ وخَرَجَ النِّساءُ مِنَ البُيُوتِ والصِّبْيانُ واجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، وأخْلَصُوا إلى اللَّهِ، وغَطَّتْ حُمْرَةُ النّارِ السَّماءَ كُلَّها حَتّى بَقِيَ النّاسُ فِي مِثْلِ ضَوْءِ القَمَرِ، وبَقِيَتِ
السَّماءُ كالعَلَقَةِ، وأيْقَنَ النّاسُ بِالهَلاكِ أوِ العَذابِ.
وباتَ النّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَيْنَ مُصَلٍّ وتالٍ لِلْقُرْآنِ وراكِعٍ وساجِدٍ، وداعٍ إلى اللَّهِ ﷿، ومُتَنَصِّلٍ مِن ذُنُوبِهِ، ومُسْتَغْفِرٍ وتائِبٍ، ولَزِمَتِ النّارُ مَكانَها، وتَناقَصَ تَضاعُفُها ذَلِكَ ولَهِيبُها، وصَعِدَ الفَقِيهُ والقاضِي إلى الأمِيرِ يَعِظُونَهُ، فَطَرَحَ المَكْسَ، وأعْتَقَ مَمالِيكَهُ كُلَّهُمْ وعَبِيدَهُ، ورَدَّ عَلَيْنا كُلَّ ما لَنا تَحْتَ يَدِهِ، وعَلى غَيْرِنا، وبَقِيَتْ تِلْكَ النّارُ عَلى حالِها تَلْتَهِبُ التِهابًا، وهِيَ كالجَبَلِ العَظِيمِ وكالمَدِينَةِ ارْتِفاعًا وعَرْضًا، يَخْرَجُ مِنها حَصًى يَصْعَدُ فِي السَّماءِ، ويَهْوِي فِيها ويَخْرُجُ مِنها كالجَبَلِ العَظِيمِ نارٌ تَرْمِي كالرَّعْدِ، وبَقِيَتْ كَذَلِكَ أيّامًا ثُمَّ سالَتْ سَيَلانًا إلى وادِي أُحَيْلِينَ، تَنْحَدِرُ مَعَ الوادِي إلى الشَّظاةِ، حَتّى لَحِقَ سَيَلانُها بِالبَحْرَةِ بَحْرَةِ الحاجِّ، والحِجارَةُ مَعَها تَتَحَرَّكُ وتَسِيرُ حَتّى كادَتْ تُقارِبُ حَرَّةَ العَرِيضِ، ثُمَّ سَكَنَتْ، ووَقَفَتْ أيّامًا ثُمَّ عادَتْ تَخْرُجُ وتَرْمِي بِحِجارَةٍ خَلْفَها وأمامَها، حَتّى بَنَتْ لَها جَبَلَيْنِ وما بَقِيَ يَخْرُجُ مِنها مِن بَيْنِ الجَبَلَيْنِ لِسانٌ لَها أيّامًا، ثُمَّ إنَّها عَظُمَتِ الآنَ، وسَناها إلى الآنَ، وهِيَ تَتَّقِدُ كَأعْظَمِ ما يَكُونُ، ولَها كُلُّ يَوْمٍ صَوْتٌ عَظِيمٌ آخِرَ اللَّيْلِ إلى ضَحْوَةٍ، ولَها عَجائِبُ ما أقْدِرُ أنْ أشْرَحَها لَكَ عَلى الكَمالِ، وإنَّما هَذا طَرَفٌ مِنها كَبِيرٌ يَكْفِي، والشَّمْسُ والقَمَرُ كَأنَّهُما مُنْكَسِفانِ إلى الآنَ، وكَتَبْتُ هَذا الكِتابَ، ولَها شَهْرٌ، وهِيَ فِي مَكانِها ما تَتَقَدَّمُ ولا تَتَأخَّرُ، وقَدْ قالَ فِيها بَعْضُهُمْ أبْياتًا:
يا كاشِفَ الضُّرِّ صَفْحًا عَنْ جَرائِمِنا … لَقَدْ أحاطَتْ بِنا يا رَبُّ بَأْساءُ
نَشْكُو إلَيْكَ خُطُوبًا لا نُطِيقُ لَها … حَمْلًا ونَحْنُ بِها حَقًّا أحِقّاءُ
زَلازِلًا تَخْشَعُ الصُّمُّ الصِّلابُ لَها … وكَيْفَ يَقْوى عَلى الزِّلْزالِ شَمّاءُ
أقامَ سَبْعًا يَرُجُّ الأرْضَ فانْصَدَعَتْ … عَنْ مَنظَرٍ مِنهُ عَيْنُ الشَّمْسِ عَشْواءُ
بَحْرٌ مِنَ النّارِ تَجْرِي فَوْقَهُ سُفُنٌ … مِنَ الهِضابِ لَها فِي الأرْضِ إرْساءُ
يُرى لَها شَرَرٌ كالقَصْرِ طائِشَةً … كَأنَّها دِيمَةٌ تَنْصَبُّ هَطْلاءُ
مِنها تَكاثَفَ فِي الجَوِّ الدُّخانُ إلى … أنْ عادَتِ الشَّمْسُ مِنهُ وهْيَ دَهْماءُ
قَدْ أثَّرَتْ سُفْعَةً فِي البَدْرِ لَفْحَتُها … فَلَيْلَةُ التِّمِّ بَعْدَ النُّورِ لَيْلاءُ
تُحَدِّثُ النَّيِّراتِ السَّبْعَ ألْسُنُها … بِما يُلاقِي بِها تَحْتَ الثَّرى الماءُ
وقَدْ أحاطَ لَظاها بِالبُرُوجِ إلى … أنْ كادَ يُلْحِقَها بِالأرْضِ إهْواءُ
فَيا لَها آيَةً مِن مُعْجِزاتِ رَسُو … لِ اللَّهِ يَعْقِلُها القَوْمُ الألِبّاءُ
فَبِاسْمِكَ الأعْظَمِ المَكْنُونِ إنْ عَظُمَتْ … مِنّا الذُّنُوبُ وساءَ القَلْبُ أسَواءُ
فاسْمَحْ وهَبْ وتَفَضَّلْ وامْحُ واعْفُ وجُدْ … واصْفَحْ فَكُلٌّ لِفَرْطِ الجَهْلِ خَطّاءُ
فَقَوْمُ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كُشِفَ ال … عَذابُ عَنْهُمْ وعَمَّ القَوْمَ نَعْماءُ
ونَحْنُ أُمَّةُ هَذا المُصْطَفى ولَنا … مِنهُ إلى عَفْوِكَ المَرْجُوِّ دَعّاءُ
هَذا الرَّسُولُ الَّذِي لَوْلاهُ ما سُلِكَتْ … مَحَجَّةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَيْضاءُ
فارْحَمْ وصَلِّ عَلى المُخْتارِ ما خَطَبَتْ … عَلى عُلا مِنبَرِ الأوْراقِ ورْقاءُ
قُلْتُ: والحَدِيثُ الوارِدُ فِي أمْرِ هَذِهِ النّارِ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَخْرُجَ نارٌ مِن أرْضِ الحِجازِ تُضِيءُ أعْناقَ الإبِلِ بِبُصْرى». وهَذا لَفْظُ البُخارِيِّ.
وقَدْ وقَعَ هَذا فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أعْنِي سَنَةَ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وسِتِّمِائَةٍ - كَما ذَكَرْنا، وقَدْ أخْبَرَنِي قاضِي القُضاةِ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أبِي القاسِمِ التَّمِيمِيُّ الحَنَفِيُّ الحاكِمُ بِدِمَشْقَ فِي بَعْضِ الأيّامِ فِي المُذاكَرَةِ، وجَرى ذِكْرُ هَذا الحَدِيثِ، وما كانَ مِن أمْرِ هَذِهِ النّارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَقالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الأعْرابِ يُخْبِرُ والِدِي بِبُصْرى فِي تِلْكَ اللَّيالِي أنَّهُمْ رَأوْا أعْناقَ الإبِلِ فِي ضَوْءِ هَذِهِ النّارِ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أرْضِ الحِجازِ.
قُلْتُ: وكانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وأرْبَعِينَ وسِتِّمِائَةٍ، وكانَ والِدُهُ مُدَرِّسًا لِلْحَنَفِيَّةِ بِمَدِينَةِ بُصَرى، وكَذَلِكَ كانَ جَدُّهُ وهُوَ أيْضًا، فَدَرَّسَ بِها، ثُمَّ انْتَقَلَ إلى دِمَشْقَ، فَدَرَّسَ بِالصّادِرِيَّةِ وبِالمُقَدَّمِيَّةِ، ثُمَّ ولِيَ قَضاءَ القُضاةِ الحَنَفِيَّةِ، وكانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِي الأحْكامِ، وقَدْ كانَ عُمُرُهُ حِينَ وقَعَتْ هَذِهِ
النّارُ بِالحِجازِ ثنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ومِثْلُهُ مِمَّنْ يَضْبِطُ ما يَسْمَعُ مِنَ الخَبَرِ أنَّ الأعْرابِيَّ أخْبَرَ والِدَهُ فِي تِلْكَ اللَّيالِي. وصَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلى نَبِيِّهِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحِبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
ومِمّا نَظَمَهُ بَعْضُ الشُّعَراءِ فِي هَذِهِ النّارِ الحِجازِيَّةِ وغَرَقِ بَغْدادَ قَوْلُهُ:
سُبْحانَ مَن أصْبَحَتْ مَشِيئَتُهُ … جارِيَةً فِي الوَرى بِمِقْدارِ
أغْرَقَ بَغْدادَ بِالمِياهِ كَما … أحْرَقَ أرْضَ الحِجازِ بِالنّارِ
قالَ أبُو شامَةَ: والصَّوابُ أنْ يُقالَ:
فِي سَنَةٍ أغْرَقَ العِراقَ وقَدْ … أحْرَقَ أرْضَ الحِجازِ بِالنّارِ
وقالَ ابْنُ السّاعِي فِي تارِيخِ سَنَةِ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وسِتِّمِائَةٍ: وفِي يَوْمِ الجُمُعَةِ ثامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ - يَعْنِي مِن هَذِهِ السَّنَةِ - كُنْتُ جالِسًا بَيْنَ يَدَيِ الوَزِيرِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ كِتابٌ مِن مَدِينَةِ الرَّسُولِ ﷺ صُحْبَةَ قاصِدٍ يُعْرَفُ بِقَيْمازَ العَلَوِيِّ الحَسَنِيِّ المَدَنِيِّ، فَناوَلَهُ الكِتابَ فَقَرَأهُ، وهُوَ يَتَضَمَّنُ أنَّ مَدِينَةَ رَسُولِ اللِّهِ ﷺ زُلْزِلَتْ يَوْمَ الثُّلاثاءِ ثانِي جُمادى الآخِرَةِ حَتّى ارْتَجَّ المِنبَرُ الشَّرِيفُ النَّبَوِيُّ، وسُمِعَ صَرِيرُ الحَدِيدِ، وتَحَرَّكَتِ السَّلاسِلُ، وظَهَرَتْ نارٌ عَلى مَسِيرَةِ أرْبَعَةِ فَراسِخَ مِنَ المَدِينَةِ، وكانَتْ تَرْمِي بِشَرَرٍ كَأنَّهُ رُءُوسُ الجِبالِ، ودامَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قالَ القاصِدُ: وجِئْتُ ولَمْ تَنْقَطِعْ بَعْدُ، بَلْ كانَتْ عَلى حالِها، وسَألَهُ: إلى أيِّ الجِهاتِ تَرْمِي؟ فَقالَ: إلى جِهَةِ الشَّرْقِ. واجْتَزْتُ عَلَيْها أنا ونَجابَةُ اليَمَنِ، ورَمَيْنا
فِيها سَعَفَةً، فَلَمْ تُحْرِقْها، بَلْ كانَتْ تُحْرِقُ الحِجارَةَ وتُذِيبُها، وأخْرَجَ قَيْمازُ المَذْكُورُ شَيْئًا مِنَ الصَّخْرِ المُحْتَرِقِ، وهُوَ كالفَحْمِ لَوْنًا وخِفَّةً.
قالَ: وذَكَرَ فِي الكِتابِ وكانَ بِخَطِّ قاضِي المَدِينَةِ، أنَّهُمْ لَمّا زُلْزِلُوا دَخَلُوا الحَرَمَ، وكَشَفُوا رُءُوسَهُمْ واسْتَغْفَرُوا، وأنَّ نائِبَ المَدِينَةِ أعْتَقَ جَمِيعَ مَمالِيكِهِ، وخَرَجَ مِن جَمِيعِ المَظالِمِ، ولَمْ يَزالُوا مُسْتَغْفِرِينَ مُتَضَرِّعِينَ حَتّى سَكَنَتِ الزَّلْزَلَةُ، إلّا أنَّ النّارَ الَّتِي ظَهَرَتْ لَمْ تَنْقَطِعْ، وجاءَ القاصِدُ المَذْكُورُ، ولَها خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وإلى الآنَ.
قالَ ابْنُ السّاعِي: وقَرَأْتُ بِخَطِّ العَدْلِ مَحْمُودِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الأمْعانِيِّ شَيْخِ حَرَمِ المَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلى ساكِنِها أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، يَقُولُ: إنَّ هَذِهِ النّارَ الَّتِي ظَهَرَتْ بِالحِجازِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وإشارَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ دالَّةٌ عَلى اقْتِرابِ السّاعَةِ، فالسَّعِيدُ مَنِ انْتَهَزَ الفُرْصَةَ قَبْلَ الفَوْتِ، وتَدارَكَ أمْرَهُ بِإصْلاحِ حالِهِ مَعَ اللَّهِ ﷿ قَبْلَ المَوْتِ، وهَذِهِ النّارُ فِي أرْضٍ ذاتِ حَجَرٍ، لا شَجَرَ فِيها ولا نَبْتَ، وهِيَ تَأْكُلُ بَعْضُها بَعْضًا إنْ لَمْ تَجِدْ ما تَأْكُلُهُ، وهِيَ تُحْرِقُ الحِجارَةَ وتُذِيبُها حَتّى تَعُودَ كالطِّينِ المَبْلُولِ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ الهَواءُ حَتّى يَعُودَ كَخَبَثِ الحَدِيدِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الكِيرِ، فاللَّهُ يَجْعَلُها عِبْرَةً لِلْمُسْلِمِينَ ورَحْمَةً لِلْعالِمِينَ، بِمُحَمَّدٍ وآلِهِ الطّاهِرِينَ.
قالَ أبُو شامَةَ: وفِي لَيْلَةِ الجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَمَضانَ مِن هَذِهِ السَّنَةِ احْتَرَقَ
مَسْجِدُ المَدِينَةِ عَلى ساكِنِهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، ابْتَدَأ حَرِيقُهُ مِن زاوِيَتِهِ الغَرْبِيَّةِ مِنَ الشَّمالِ، وكانَ دَخَلَ أحَدُ القَوْمَةِ إلى خِزانَةٍ ثَمَّ، ومَعَهُ نارٌ فَعَلِقَتْ فِي الآلاتِ ثَمَّ، واتَّصَلَتْ بِالسَّقْفِ بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ دَبَّتْ فِي السُّقُوفِ، وأخَذَتْ قِبْلَةً، فَأعْجَلَتِ النّاسَ عَنْ قَطْعِها، فَما كانَ إلّا ساعَةٌ حَتّى احْتَرَقَتْ سُقُوفُ المَسْجِدِ أجْمَعَ، ووَقَعَتْ بَعْضُ أساطِينِهِ، وذابَ رَصاصُها، وكُلُّ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَنامَ النّاسُ، واحْتَرَقَ سَقْفُ الحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، ووَقَعَ ما وقَعَ مِنهُ فِي الحُجْرَةِ، وبَقِيَ عَلى حالِهِ حَتّى شُرِعَ فِي عِمارَةِ سَقْفِهِ وسَقْفِ المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، عَلى صاحِبِهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، وأصْبَحَ النّاسُ، فَعَزَلُوا مَوْضِعًا لِلصَّلاةِ، وعُدَّ ما وقَعَ مِن تِلْكَ النّارِ الخارِجَةِ وحَرِيقِ المَسْجِدِ مِن جُمْلَةِ الآياتِ، وكَأنَّها كانَتْ مُنْذِرَةً بِما يَعْقُبُها فِي السَّنَةِ الآتِيَةِ مِنَ الكائِناتِ عَلى ما سَنَذْكُرُهُ، إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، هَذا كَلامُ الشَّيْخِ شِهابِ الدِّينِ أبِي شامَةَ.
وقَدْ قالَ أبُو شامَةَ فِي الَّذِي وقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وما بَعْدَها شِعْرًا، وهُوَ قَوْلُهُ:
بَعْدَ سِتٍّ مِنَ المِئِينَ وخَمْسِي … نَ لَدى أرْبَعٍ جَرى فِي العامِ
نارُ أرْضِ الحِجازِ مَعَ حَرْقِ المَسْ … جِدِ مَعْهُ تَغْرِيقُ دارِ السَّلامِ
ثُمَّ أخْذُ التَّتارِ بَغْدادَ فِي أوَّ … لِ عامٍ مِن بَعْدِ ذاكَ وعامِ
لَمْ يُعْنَ أهْلُها ولِلْكُفْرِ أعْوا … نٌ عَلَيْهِمْ يا ضَيْعَةَ الإسْلامِ
وانْقَضَتْ دَوْلَةُ الخِلافَةِ مِنها … صارَ مُسْتَعْصِمٌ بِغَيْرِ اعْتِصامِ
فَحَنانًا عَلى الحِجازِ ومِصْرَ … وسَلامًا عَلى بِلادِ الشّامِ
رَبِّ سَلِّمْ وصُنْ وعافِ بَقايا ال … مُدُنِ يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ
وفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَلَتْ عِمارَةُ المَدْرَسَةِ النّاصِرِيَّةِ الجَوّانِيَّةِ داخِلَ بابِ الفَرادِيسِ، وحَضَرَ فِيها الدَّرْسَ واقِفُها المَلِكُ النّاصِرُ صَلاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ المَلِكِ العَزِيزِ مُحَمَّدِ بْنِ المَلِكِ الظّاهِرِ غِياثِ الدِّينِ غازِيِّ بْنِ النّاصِرِ صَلاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أيُّوبَ بْنِ شادِي فاتِحِ بَيْتِ المَقْدِسِ، ودَرَّسَ فِيها قاضِي البَلَدِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وحَضَرَ عِنْدَهُ الأُمَراءُ والدَّوْلَةُ والعُلَماءُ وجُمْهُورُ أهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ بِدِمَشْقَ.
وفِيها أُمِرَ بِعِمارَةِ الرِّباطِ النّاصِرِيِّ بِسَفْحِ قاسِيُونَ.